وبعد طول تعثر بين وهاد ونجاد تاريخ الحياة وجغرافيتها،رفعت رأسها ويديها الى السماء داعية أن تهتدي الى سبيل الرشاد، وما أن أسبلت يديها حتى شعرت بأن هاتفا يهتف من أعماق أعماقها قائلا : إن أردتِ أن تهتدي الى ملاذكِ الأخير ما عليكِ إلا أن تتبعي مشرق الشمس،حيث اليوم الجديد هو مولد الحياة الجديدة واشراقات الأمل، صاحت بأعلى صوتها فرحة وكأنها نيوتن زمانه لقد وجدتها، نعم إلى أقصى الشرق العربي، يا الله كيف لم أفكر بهذا من قبل؟. جدت بالمسير وكلما أوغلت فيه أكثر كلما لانت الأرض تحت قدميها أكثر، وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد أو أنها تواطأت معها لغاية في نفسها تريد قضاءها. وهكذا تحولت وعورة الأرض إلى سهول منبسطة، تفتح ذراعيها مرحبة بالقادم الجديد. كانت سهولا بيضاء ببياض قلوب أصحابها وسوداء بلون الغل وحقد عقود القهر والاستبداد،نادت مرة أخرى ياالله إني لأعرف هذه الوجوه بسيماها وهذه الرائحة ليست بغريبة عن ذاكرتي. كانت الأصوات مسموعة مثل الشلال الهادر، والأيادي كانت سمراء مرفوعة تحصد قمح البيادر، لقد طارت فرحا وطربا حيث سكنت جوارحها وآلامها وهدأ روعها وقلقها، ولأول مرة تشعر أنها قد اقتربت من أهلها وناسها. ومن بعيد لفت انتباهها طيف خيال يتحرك جيئة وذهابا، أحبت أن تعرف صاحب هذا الطيف اقتربت منه أكثر، تقاربت خطاها إلى أن اقتربت منه ولم يكد يفصل بينهما إلا نهر النار والدم والمعروف لأهل المنطقة منذ زمن بعيد،ولم يجرؤ أحد على اجتيازه للمرور إلى الضفة الأخرى، نعم كان النهر يفصل بينها وبين الطيف إلا أنها كانت تستطيع أن تكلمه وتسمع صوته بكل وضوح . لم يكن ذلك الطيف إلا بقايا عجوز أكل الدهر عليها وشرب وترك آثار تعذيبه وظلمه لها على جسدها النحيل. كانت العجوز تحمل بين يديها رغيف خبز يابس تبلله بدموعها ليسهل عليها مضغه بعد أن فقدت جميع أسنانها. استانست القادمة من المجهول بتلك العجوز أكثر شعرت أن رابطة ما تجمعها بها، إلا أنها لم تدر ما هي تلك الرابطة، و بعد أن سلمت عليها، وردت عليها العجوز التحية بأحسن منها، سألتها عن سبب مكوثها جانب النهر حيث رائحة الدم تدل على الموت ورائحة النار تدل على الخراب فأجابت العجوز أنه لا يوجد لها أي مكان تلجأ اليه إلا هذا المكان، ولن تبرح الأرض حتى يطفئ الدم لهيب الحقد المستعر . سألتها عن صحتها،فقالت بعد أن أخذت نفسا عميقا: كنت قبل أكثر من ست وثمانين سنة جميلة الجميلات، كان الكل معجبا بي، يغازلني ويطلب ودي، كنت أمشي بين أخواتي بكل فخر وخيلاء لأني أعلم أن الله قد وهبني من الحسن والجمال ما لم يهبه لغيري إلى أن جاءت ليلة ظلماء عدا فيها علي العادون فجاسوا خلال الديار خربوا واحرقوا ونهبوا ولم يتركوا أي منكر إلا فعلوه، قتلوا من أولادي من قتلوا وما هذه الدماء التي تجري في هذا النهر إلا من تلك الأجساد الطاهرة، وشردوا منهم من شردوا، وأنا مع اطلالة كل صباح آت إلى هنا أنتظر قدوم من تبقى من أولادي المشردين في مشارق الأرض ومغاربها. أردفت العجوز، يا ابنتي لقد شح نظري لطول التحديق في الأفق بانتظار الأمل القادم، ومع وهن عظام القدمين إلا أنني أتحامل على نفسي للمجيء إلى هذا المكان المحبب إلى قلبي، أما الجلد فقد حوى في تجاعيده تاريخا وآلاما لا يشعر بها إلا من يكابدها، ومع هذا فإن الأمل يحدوني بذلك اليوم الذي يتجدد فيه شبابي، ولن تحن منيتي قبل أن أكحل ناظري برؤية من أحببت . يا ابنتي إنني لم أندم على كل ما مضى وجرى وذلك أن سنة الحياة تقضي أن تكون الأيام متداولة بين الظالم والمظلوم، وهناك شيئان ما داما موجودان لدي ولم ينزعهما مني جلادي- ولن يستطيع نزعهما أبدا- فأنا بالف خير،وسيبقى يحدوني الأمل باليوم الموعود، وهذان الشيئان هما رحمي وصدري، فأنا وعلى الرغم من عمري العتي فإنني لازلت قادرة على الإنجاب وسأبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وسيبقى اللبن في صدري مدرارا لأطعم وأغذي من أنجبهم. كان ثوب العجوز كثوب والدة القادمة ورائحتها تذكرها برائحة والدتها وكان كلامها ذي شجون لدرجة دفع القادمة من المجهول إلى ان تغامر بعبور النهر لاحتضان العجوز وضمها، إلا أن صيحة من العجوز نبهتها إلى التمهل قليلا لانتظار أولادها الفرسان،والذين اقترب قدومهم لا محالة على خيول النصر والمجد وذلك لضمان اجتياز القادمة من المجهول إلى الضفة الأخرى من النهر دون متاعب تصيبها . لقد عرفت تلك القادمة عن المرأة العجوز كل ما تريد أن تعرفه إلا انها نسيت أن تسألها عن اسمها وما أن سألتها عنه حتى بادرتها العجوز يا ابنتي إنني أنا الأحواز المنسية . ذرفت عينا القادمة من المجهول دمعتين جامدتين كأنهما ياقوتتان و قالت اسمحي لي يا خالة، وقبل أن تكمل القادمة جملتها قاطعتها العجوز قائلة يا ابنتي لا تناديني بالخالة فالخالة تتخلى بل إنني الأم، والأم تضم، انهمر الدمع غزيرا من عيني القادمة وقالت للأحوازى لن اتخلى عنك بعد اليوم يا أمي وسيأتي اليوم الذي اضمك فيه فأنت من كنت أبحث عنها منذ زمن و أنا الحرية .
ahwazi_fadel@yahoo.com فاضل الاحوازي
ahwazi_fadel@yahoo.com فاضل الاحوازي
0 التعليقات:
إرسال تعليق